كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وتعليق: هذا الجواب ليس بالذي يسدّ هذه الثغرة التي أوجدها الاعتراض، الذي يجاب عليه بهذا الجواب! فإذا كان الإيمان باللّه لا يكمل ولا يتم بمجرد السمع أو القراءة عن اللّه، بل لابد من رؤيته مجسسدا، فمعنى هذا أن جميع الذين لم يروا اللّه مجسدا في المسيح هم على تلك الصفة.. إيمانهم ناقص، لا يتم إلا برؤية اللّه مجسدا في المسيح، ومعنى هذا أيضا أن إيمان جميع الذين سبقوا المسيح من الأنبياء والرسل وأتباعهم إيمان ناقص، وكذلك إيمان أتباع المسيح جميعا الذين لم يروه رأى العين! فما الجواب؟ وأظن لا جواب! اعتراض ثالث: «إن كان ولابد من تجسّد اللّه.. فلما ذا لم يظهر بالهيئة التي تليق بمجده وبهائه، حتى تهابه الناس وتخضع له؟» وجواب: «إن غرض اللّه من التجسد، لم يكن لإظهار عظمته، أو إثارة وإعجاب الناس به (لأن تصرفا كهذا لا يصدر إلا من الناقص، الراغب في تعظيم الناس له) بل هو جمعهم حوله لكى يمتّعهم بحبّه وعطفه، ويخلصهم من خطاياهم وضعفتهم، حتى تكون لهم معه حياة روحية سعيدة، وبما أنه لو كان تعالى قد ظهر لهم بهيئة تناسب مجده الأزلى لارتعب الناس منه، ولما استطاع واحد منهم أن يدنو إليه- كان البديهي أن يظهر لهم بالهيئة المألوفة لديهم، وهى الهيئة البشرية، لكى تتحقق أغراضه هذه، كما أنه لو كان قد تجنب الظهور بمجده الخاص الذي يرعب الناس، وظهر فقط بإحدى مظاهر العظمة الأرضية، لحرم متوسطو الحال والفقراء من التمتع به، وهؤلاء- كما نعلم- هم السواد الأعظم من البشر، وهم في جملتهم أكثر من الأغنياء استعدادا لمعرفته والسير في سبيله، لذلك كان من البديهي أيضا ألا يظهر بأى مظهر من مظاهر العظمة الدنيوية كذلك، بل يظهر بالمظهر العادي، الذي ظهر به فعلا، لأنه هو الذي يفسح المجال أمام جميع الناس للاقتراب إليه والاتصال به، والإفادة منه.
وتعليق وهذا الجواب أيضا أبعد من أن يدفع الاعتراض المعترض به..
فاللّه إذ ظهر هذا الظهور الذي هو أقرب إلى الخفاء والتستر، منه إلى أي شيء آخر، إذ لم ير الناس- الذين رأوه شيئا منه.. إنهم لم يروا إلا إنسانا..
مجرد إنسان يقال عنه، أو قيل عنه- فيما بعد- إنه هو اللّه! فأين اللّه الذي رآه الناس على أنه اللّه- وأين الناس الذين رأوه على تلك الصورة؟ لا جواب!.
ثم إن الذين رأوه، هم قلّة في الناس، لا يكادون يذكرون إلى تلك الأعداد التي لا حصر لها من الذين لم يروا المسيح، ولم يضمهم إليه، ويمتعهم بمحبته! واعتراض رابع: إذا كان المسيح هو اللّه.. فلما ذا لم يعلن ذلك صراحة أمام الناس، حتى يؤمنوا جميعا به؟»
.
وجواب: «لا يخفى لدى العاقل أنه لو كان المسيح قد أعلن للناس عن حقيقة ذاته قبل أن يختبروها بأنفسهم، لكانوا قد اعتبروه محترفا ومدعيا، ولما كانوا قد آمنوا به إطلاقا.. لكن شاء أن يستنتجوا هم حقيقة ذاته، من حياته، وأعماله، لكى لا يكون إيمانهم به نظريا أو سماعيا، بل إيمانا اختباريا عمليا.
«ومع كل فقد أعلن السيد المسيح عن حقيقة ذاته بكل صراحة للذين كانوا يشكّون في شخصيته، أو لا يستطيعون الكشف عنها..
فقد قال مرة لأعمى كان- له المجد- قد شفاه: «أتؤمن بابن اللّه؟» فلما سأله هذا: «من هو يا سيد لأومن به؟ أجاب- له المجد: قد رأيته، والذي يتكلم معك هو هو» فقال له الأعمى: أو من يا سيد، وسجد له»
.
وتعليق: المسيح، كما هو ظاهر من هذا القول، لم يعلن أنه هو اللّه، بل قال إنه «ابن اللّه». وللبنوة هذه معنى كان معروفا عند الناس إذ ذاك في الكتب المقدسة.. وطبيعى أن هذا الأعمى لم يكن عنده علم بالأقانيم الثلاثة التي يمثل الابن وجها من وجوه اللّه بها.. والتي عرفت بعد ذلك بزمن طويل.
فإذا اعترف بأن المسيح ابن اللّه، كان اعترافه بأن المسيح ذات مستقلة عن اللّه.. فالمسيح ابن، واللّه أب.. والأب غير الابن..
أما القول بأن المسيح لم يعلن عن ألوهيته حتى يختبرها الناس في أعماله وآثاره، فقد كانت نتيجة هذا الاختبار هو صلب المسيح كما يؤمن بذلك الذين آمنوا بألوهيته.. وهى نتيجة ناطقة ببطلان هذا القول..
واعتراض خامس: «إن كان ولابد من تجسد اللّه، فلما ذا لم يظهر في العالم رجلا كامل النمو، بدلا من ولادته من امرأة، ومروره في أدوار الطفولة والصبا، التي لم يفعل فيها شيئا مذكورا؟».
وجواب: «إن السنّة التي وضعها اللّه للأفراد والجماعات هي النمو والتقدم، وبناء على ذلك كان من البديهي أن يظهر المسيح- وقد رضى أن يكون إنسانا- طفلا، يتدرج في النمو، قامة وعقلا، وتتدرج معه الجماعة المحيطة به يقظة ووعيا، تتهيأ بسببه لقبول المسيح والاستماع إليه..
كما أننا إذا وضعنا قبلة أنظارنا أن غرض اللّه من التجسد لم يكن مجرد إعلان ذاته لنا، بل الاتحاد الجوهري بنا، لكى يكون الرأس الفعلى أو الحقيقي لجنسنا (عوضا عن آدم الأرضىّ الذي بانتسابنا إليه، وتوالدنا منه قد ورثنا الطبيعة الخاطئة، وورثنا معها قضاء الموت الأبدى) حتى نستطيع بدورنا أن نتحد باللّه اتحادا عمليا حقيقيا- اتضح لنا أنه لو كان قد ظهر كامل النمو، أو بتعبير آخر ظهر دون أن يأخذ جسدا من جنسنا، لكان قد ظل غريبا عنا، ومفارقا لنا، وبالتبعية لما كان رأسا لنا، ولما كان لنا نحن صلة فعلية به، لكن بتفضله بالولادة من جنسنا، قد اتحد بنا، وأصبح لنا بدورنا أن نتحد به، اتحاد الأغصان بالكرمة، وبذلك تحققت أغراضه السامية بالتجسد»
.
وتعليق: لقد انحرف هنا الجواب أيضا عن الرد المباشر على الاعتراض..
وهو لما ذا لم يظهر «اللّه» حين تجسد، رجلا كامل النمو، بدلا من أن يمر في تلك الأدوار التي مرّ فيها.؟ وقد أجاب المجيب إجابة متهافتة، وإذ شعر بهذا، فقد اتجه اتجاها آخر بالإجابة على هذا الاعتراض، وهو أن اللّه قد اتحد بجنسنا لكى نتحد نحن به، لأن الجنس أشكل بجنسه! وكان على المتصدّى للرد على هذا الاعتراض أن يعلل لتجسد اللّه- لا في جسد إنسانى وحسب- بل وبمرور هذا التجسد في جميع أدوار الحياة الإنسانية من الميلاد إلى الممات.! ولو أنه فعل لوجد أن المسيح الذي تجسد اللّه فيه قد مات شابا، فلم يمرّ في أدوار الكهولة، والشيخوخة! وكان منطق الردّ يقضى بأن يمر المسيح أو اللّه المتجسد في المسيح، في جميع هذه الأدوار، حتى يلبس الإنسانية كلها، وبهذا يمكن أن يكون رأسا لها! ثم ماذا يقول المجيب على هذا الاعتراض، عن حياة المسيح في رحم أمه، ثم في دور طفولته، وهو في قيد الضعف والعجز، لا يملك من أمر نفسه شيئا...؟
واعتراض سادس: «إذا كان المسيح هو اللّه.. فلما ذا ظهر في أماكن محدّدة، ولم يظهر في جميع الأمكنة، حتى يراه جميع الناس، ويؤمنوا به؟
وجوابه: إذا رجعنا إلى العصر الذي عاش فيه المسيح على الأرض، وجدنا أن الشعب الوحيد الذي كان يؤمن باللّه إيمانا خالصا من كل زيغ، هو الشعب اليهودي، ولذلك كان من البديهي أن يظهر المسيح بوصفه «اللّه المتأنّس»، بين اليهود لأنهم أقرب الناس إلى الإيمان به!.. وكان من البديهي أيضا أن يظل بينهم حتى يعرفوه حق المعرفة، ويؤمنوا به كل الإيمان، ولكن لما رفضوه على الرغم من الأدلة الكتابية والاختبارية التي تثبت حقيقة ذاته- اختار من بينهم أشخاصا كانوا أكثر استعدادا من غيرهم لمعرفته والتوافق معه، وقضى مدة طويلة في تدريبهم وتعليمهم، حتى عرفوا بعد قيامته من بين الأموات حقيقة ذاته كل المعرفة، ثم كلفهم بعد ذلك أن يحملوا رسالته، ليس إلى اليهود وحدهم، بل إلى كل الأمم (متى 28: 18) [و هذا يناقض ما نطق به المسيح: «إلى أمم لا تمضوا: [متى 10: 5] «وإذا أضفنا إلى هذا: (أولا) أن فلسطين التي ظهر فيها المسيح لم يره كل شخص من سكانها، بل إن كثيرين لم يروه إطلاقا، وأنه لو كان قد انتقل إلى كل بلاد العالم لكان كثيرون أيضا من سكانها لا يرونه. و(ثانيا) أن معرفة اللّه في المسيح لا تتوقف على رؤية العين، بل على الإيمان به بالقلب، وفى هذه الحالة يستوى الذين رأوه والذين لم يروه، إذا كانوا قد آمنوا به!! ويستوى الذين رأوه والذين لم يروه إذا كانوا لم يؤمنوا به!».
وتعليق: ونقف عند هذا المقطع الأخير من الجواب.. ونسأل: إذا كانت معرفة اللّه لا تتوقف على رؤيته بالعين، بل على الإيمان به بالقلب- وفى هذه الحالة يستوى الذين رأوه والذين لم يروه من المؤمنين به وغير المؤمنين- فلما ذا إذن هذا التجسد للّه؟ وما حكمته، إذا كان يستوى في ذلك الذين رأوه والذين لم يروه؟ ثم لم هذه البلبلة وهذا الاضطراب، وهذه الفتن التي تجىء من وراء القول بتجسد اللّه؟ وإن أقلّ ما فيه أنه يفتح باب الادعاء على مصراعيه، لكل من يدّعى أنه اللّه، وأن اللّه قد تجسّد فيه! وفى هذا ما فيه من التعمية على الناس، والتشويش على المؤمنين باللّه!؟
واعتراض سابع: «إن تجسد اللّه، إما أن يظل إلى آخر الدهور، فتدوم فوائده، وإما أن يكون مؤقتا، وحينئذ لا يكون هناك مبرر لتمتع جيل خاص برؤيته في الجسد، دون غيره من الأجيال».
وجوابه: «بما أنه مع ظهور اللّه في الجسد في العالم، ورؤية الناس لأعماله ومعجزاته، استمر معظمهم في شرورهم وآثامهم. وبما أنه تعالى يريد أن يكون الإيمان به مقترنا كل الاقتران بحياة القداسة.. وبما أن حياة القداسة لا تتأتّى بواسطة الاقتناع النظري بحقيقة اللّه، بل بواسطة الاتصال الروحي به.. وبما أن هذا الاتصال لا يتولد عن النظر إليه بعين الجسد الخارجية، بل عن النظر إليه بعين الإيمان الباطنية- إذن كان من البديهي أن يقتصر الرب في أمر ظهوره بالجسد على المدة التي قضاها في العالم (و هذه والحمد للّه- يقول المؤلف- كانت كافية كل الكفاية لإثبات شخصيته، وإظهار محبته للبشر أجمعين، حتى تكون علاقتهم به ليس العلاقة الجسدية، بل العلاقة الروحية...).
والتعليق: وإذن فقد كان ظهور اللّه متجسدا في تلك المدة المحدودة، في الزمان والمكان- كان ذلك لمجرد إثبات شخصيته! ولكن لمن؟
لجماعة معدودة من الناس.. في جيل محدود من أجيالهم، وفى رقعة محدودة من أوطانهم.. وإذن فقد كان على اللّه أن يقدّم «بطاقة» شخصية إلى كل إنسان، في كل زمان، وفى كل مكان.. وإلا كان من حق الناس أن يجهلوه ولا يعترفوا به! مشكلات كثيرة أثارها تجسّد اللّه في المسيح.. في إنسان معروف للناس، رأوه رأى العين، يعالج من شئون الحياة ما يعالجون، ويأتى ما يأتون، ويذر ما يذرون.. ثم يعود فيطلع عليهم من عالم الأموات، فإذا هو اللّه «رب العالمين!!» كان يمكن أن تكون هذه الدعوى أكثر احتمالا، وأقرب إلى الواقعية لو أن الناس قد التقوا بدعوى ألوهية المسيح حال حياته، حيث يتاح لهم النظر إليه من قرب، واختبار أحواله عن واقع.. وأدخل من هذا في باب الاحتمال والواقعية لو أن المسيح لم يلتق بالناس ولم يلتق به الناس إلا رجلا كاملا، لم يروا فيه ضعف الطفولة، وعجزها، وتحكّم الضرورات الإنسانية فيها، وخضوعه خضوعا مطلقا ليد من يرعاه ويقوم بأموره!
وقد رأينا الدفوع التي دفعت بها هذه الاعتراضات وأشباهها، وأنها كانت دفوعا هزيلة متهافته، لا تغنى من الحق شيئا، ولا تزيد الأمر إلا غموضا على غموض، وشبها فوق شبه! حلّ أضاف إلى المشكلة مشكلات:
وأمر آخر من أمر المسيح «الإله» زاد العقدة عقدا، وأضاف إلى المشكلة مشكلات.. وهو هذا الفهم الجديد للألوهية، ذلك الفهم الذي لم تعرفه الدعوات السماوية من أمر الإله، في هذا الوصف الكاشف لذاته، والتشريح المكيّف لتلك الذات.. حيث ظهر القول بتلك الأقانيم أو التعيّنات الثلاثة «للّه» واعتباره ثلاثة في واحد، وواحدا في ثلاثة.. هم: الأب، والابن، وروح القدس! هذه المقولة قد وضعت المسيح «اللّه» وضعا جانبيا في الذات الإلهية..
فلم يكن هو «اللّه» «كلّ اللّه» وإنما هو «الابن» ظاهرا، ثم هو في الوقت نفسه الأب والروح القدس، قائما وراء هذا الظاهر! إنها عملية معقدة! وحلقة مفرغة لا يدرى أحد أين طرفاها!! فالمسيح إنسان، وإله..
إنسان كامل.. وإله كامل..
وانظر كيف يجتمع الإنسان والإله في كيان واحد!.. شخصية مزدوجة، وجهها إله، وظهرها إنسان! والمسيح.. ابن، وأب، وروح قدس! والابن هو اللّه..!
والأب هو اللّه..!